وإن نسيت لا أنسى موقفاً من المواقف، لو توافرت فيه الثقة الكاملة في الله والرغبة الأكيدة في النصرة الكاملة، لكان الفوز عظيماً مبيناً. ذلك أن أحد الملوك القدامى ذهب مرة إلى اليشع النبي باكياً خوفاً من أعدائه. فقال له اليشع: خذ قوساً وسهاماً، ففعل... ثم قال له بعد ذلك: اضرب على الأرض (رمزاً إلى مقاتلته لأعدائه) فضرب ثلاث مرات ووقف. فغضب اليشع وقال له: لو ضربت خمس أو ست مرات، لضربت حينئذٍ أعداءك إلى الفناء (2 ملوك 13: 14- 25).
كما أننا إذا رجعنا إلى سيرة ربنا يسوع المسيح، نرى أنه لم يكن يمنح الشفاء للمرضى، إلا إذا توافرت لديهم الثقة الكاملة في قوته والرغبة الخالصة في الحصول على شفائه (متى 9: 20- 22). فمرة أتاه رجل مع ابن مريض، وقال للمسيح: "إن كنت تستطيع شيئاً فتحنن علينا". فقال له المسيح "إن كنت تستطيع أن تؤمن، كل شيء مستطاع للمؤمن". ولما وجد الرجل أن العيب فيه، صرخ بدموع قائلاً: "أؤمن يا سيد، فأعلن عدم إيماني". وفي الحال أحسن المسيح إلى ابنه بالشفاء.
فليرسخ إذاً في أعماق نفوسنا أن الرب لا يتركنا في وقت التجربة، بل بالعكس يتطلع إلينا في أثنائها بصفة خاصة، منتظراً أن نظهر الرغبة الصادقة في الخلاص منها، بواسطة الاتجاه القلبي إليه. فقد قال: "ادعني في يوم الضيق أنقذك، فتمجدني" (مزمور 50: 1). كما قال: "تطلبونني فتجدونني، إذ تطلبونني بكل قلوبكم" (أرميا 29: 13). ولذلك يليق بكل منا في وقت التجربة أن يرنم قائلاً: "ولكنني أراقب الرب... أصبر لإله خلاصي. يسمعني إلهي. لا تشمتي بي يا عدوتي إذا سقطت أقوم. إذا جلست في الظلمة، فالرب نور لي" (ميخا 7: 7- . وأن يرنم هذه الترنيمة من أعماق قلبه مؤمناً إيماناًَ صادقاً بأنه لا بد أن ينتصر انتصاراً تاماً. وبذلك تهدأ عواطفه وتستقر أفكاره ويرى الرب بالإيمان واقفاً بجواره. وحينئذٍ لا يسعه إلا أن يهتف هتاف النصرة قائلاً: أين شوكتك أيتها الخطيئة؟ أين قوتك أيتها التجربة؟ لأنه يرى أنها في طريق واحد قد خرجت عليه، ولكن في سبعة طرق تهرب من أمامه (تثنية 28: 27).
والآن وقد تبددت الأهواء وانقشعت غيومها، أفليست في ثورتها هي مجرد كابوس أو حلم مفزع لا يبقى له أثر أمام الإيمان الوطيد، والرغبة الصادقة في السلوك بالقداسة!! فيجب أن نضع نصب أعيننا إذن، أنه ليست للخطيئة سلطان علينا، لأننا لسنا تحت الناموس الذي يأمرنا بحفظ الوصايا دون أن يمدنا بالمعونة اللازمة لحفظها، بل تحت النعمة التي تعضدنا في القيام بكل ما تطلبه منا من وصايا (رومية 6: 14). وكل ما في الأمر، أن عدو الخير ينصب حولنا شباكه هي في الواقع أوهى من خيوط العنكبوت، ثم يدخل في روعنا أننا محاطون بأغلال من حديد فيدب فينا (إذا كنا بعيدين عن الله) دبيب اليأس والفشل ونستسلم للخطيئة صاغرين!!
لكن لماذا يظهر عدو الخير أمام بعض المؤمنين بمظهر البطش، مع أنه لا حول له ولا قوة إزاءهم؟ الجواب: إنه يظهر أمامهم بهذا المظهر، لأنه يراهم يقفون منه موقف الضعف والمسكنة والاستعداد لتلبية ندائه. ولذلك يجب أن يضع جميعاً في قرارة نفوسنا أن هذا العدو لا يسعى وراءنا، إلا إذا دعوناه إلينا. ولا يحدثنا، إلا إذا أصغينا إلى صوته. ولا ينزع منا سلاحنا، إلا إذا ألقيناه بأنفسنا أمامه. ولا يغزو قلوبنا، إلا إذا فتحناها له. ولا يقودنا إلى الخطيئة، إلا إذا سلمناه أمرنا وسرنا وراءه. وأي ضعيف عاجز يستطيع أن يفعل بنا كل هذا، إذا سلكنا إزاءه مسلكنا إزاء عدو الخير. ولذلك يجب على كل منا أن يقول له: "اذهب عني يا شيطان" (متى 4: 10)، فيعدو من أمامه ويتوارى في الحال. فقد قال الكتاب "قاوموا إبليس فيهرب منكم" كما يفعل الجبان تماماً (يعقوب 4: 7)، ذلك لأن المسيح بموته الكفاري على الصليب نزع سلطان الشيطان عن المؤمنين الحقيقيين. فقد قال عنه: "رأيت الشيطان ساقطاً كالبرق" (لوقا 10: 18). كما قال الرسول عنه أن الله سيسحقه تحت أقدامنا سريعاً (رومية 16: 20).فالأمر لا يستدعي إذن أن يرسل الله ملاكاً لكي يطرد الشيطان عنا، إذ أن في كلمته تعالى كل الكفاية لطرده، إنما يجب أن نستخدم هذه الكلمة ليس برخاوة بل بنشاط، وليس بشك بل بيقين، وبيقين كامل في قوة المسيح التي لا تقف قوة في الوجود أمامها. ذلك لأن الرخاوة لا تمسك صيداً (أمثال 12: 27)، ولأن الشك يسلب القدرة على الغلبة (مرقس 11: 22).
أما الصلاة لله لكي يدفع عدو الخير عوضاً عنا لأنه أقوى منا، فغير مقبولة لديه تعالى، لأن مقاومة هذا العدو هي من عملنا كما يتضح من الآية المقتبسة من (يعقوب 4: 7). والله لا يعمل لنا عملاً طلب منا القيام به بأنفسنا، وذلك لكي تقوى حياتنا الروحية وتسمو، ولا نكون بعد أطفالاً بل رجالاً. ومن ثم فموقفنا إزاء عدو الخير يجب أن يكون موقف الرسول إزاءه، فهو لم يتضرع إلى الله أن يخرج روح العرافة من الجارية، بل قال له بسلطان: "أنا آمرك باسم يسوع المسيح أن تخرج منها" (أعمال 16: 16- 18). فخرج في الحال. ولذلك يمكن للمؤمن الحقيقي وهو في ملء اليقين بقوة الله العاملة فيه، أن يناجي نفسه قائلاً: "دوسي يا نفسي (على إبليس والخطيئة) بعز" (قضاة 5: 21). إذ أننا قادرون بالمسيح على قهرها معاً. فقد قال الرسول: "لأن الذي فينا أعظم من الذي في العالم" (1 يوحنا 4: 4). كما قال: "وهذه هي الغلبة التي تغلب (أهواء) العالم إيماننا. من هو الذي يغلب العالم إلا الذي يؤمن أن يسوع هو ابن الله" (1 يوحنا 5: 4). وأيضاً: "كتبت إليكم أيها الأحداث لأنكم أقوياء وكلمة الله ثابتة فيكم، وقد غلبتم الشرير" (1 يوحنا 2: 14).
فبربنا يسوع المسيح لا نخلص من قصاص الخطيئة فقط، بل وننتصر أيضاً عليها وعلى من يريد أن يسقطنا فيها، فقد قال الرسول: "يعظم انتصارنا بالذي أحبنا" (رومية 8: 37). كما قال أن روح الحياة في المسيح قد أعتقنا من ناموس الخطية والموت (رومية 8: 2). فلنتقوَّ إذاً بالرب، ونكسر سلاسل الخطية التي يحيطنا العدو بها، فروح الحياة موجودة فينا، وما علينا إلا أن نستثمره بالإيمان غير عابئين بوساوس هذا العدو، فننتصر، وننتصر انتصاراً عظيماً.
وإذا كان الأمر كذلك، فلماذا نستسلم للضعف ولا نستثمر قوة المسيح المعطاة لنا، مع علمنا أننا إذا استثمرناها، يتغير الموقف تغيراً تاماً؟ ألم يقل المسيح لبولس الرسول عندما شعر هذا بضعفه وعجزه: "تكفيك نعمتي لأن قوتي في الضعف تكمل" (2 كورنثوس 12: 9). فحياة المسيح المنتصرة لا بد أن تظهر بقوة وباستمرار في جميع الذين يقبلون إليه. فلا نكون إذن أغبياء بل فاهمين مشيئة الله (أفسس 5: 17). فهو تعالى يريد أن ننتصر، وننتصر في كل حين. ومن ثم يجب أن لا نتراجع قيد أنملة عن تنفيذ مشيئته هذه، لأن هذا التراجع يضعف فينا الرغبة في مقاومة الخطيئة شيئاً فشيئاً حتى تنعدم، وإذا كان الأمر كذلك، فلننهض بشجاعة ولننفض عنا الضعف والتراخي إلى الأبد.
أخيراً نقول أن فرصة التجارب، هي الفرصة التي يمكن أن نظهر فيها مقدار طاعتنا لله ورغبتنا في حياة القداسة معه، حتى إذا تزكينا نكون أكثر أهلية لخدمته. فهذه الفرصة هي إذن فرصة ذهبية أمام كل مؤمن حقيقي، يجب أن يستغلها بكل وسيلة من الوسائل للنصرة الساحقة على الخطيئة، فيضيف بذلك إلى قدرته قدرة، وغلى مقامه لدى الله مقاماً، كما يجني من وراءها اختبارات روحية ثمينة. وحقاً لقد صدق من قال: "إن التجارب تهجم علينا هجوم الأسد على شمشون، ولكن بالانتصار عليها نجد بركة لنفوسنا، كما وجد شمشون بعد تمزيقه للأسد شهداً طيباً في أول الأمر".
-8واجبنا بعد الهرب من الأهواء
إن الهرب من الأهواء، وإن كان يحفظنا من السقوط في الخطيئة، إلا أننا إذا وقفنا عنده، فقد تلحق بنا الشهوات، أو نضعف نحن ونميل إليها. فعلينا إذاً أن لا نكتفي بالهرب منها، بل أن نقوم أيضاً ببعض الأعمال النافعة لنحفظ قلوبنا وأفكارنا في حصن حصين من هذه الشهوات، كما ذكرنا فيما سلف.
ولذلك إذا رجعنا إلى الكتاب المقدس، نرى أنه بعد ما قال: "أما الشهوات الشبابية فاهرب منها"، قال: "واتبع البر والإيمان والمحبة والسلام، مع الذين يدعون الرب من قلب نقي" (2 تيموثاوس 2: 22) – مما تجدر ملاحظته في هذه الآية أنها توصينا بالهرب من الشهوات، قبل القيام بالأعمال الروحية المذكورة. وهذا ما يتفق مع الاختبار العملي كل الاتفاق. لأننا نعلم بالاختبار أنه لا يتسنى لنا القيام بهذه الأعمال بالحالة التي ترضي الله وتمجده، إلا إذا كانت قلوبنا خالية من الأهواء والشهوات خلواً تاماً. وللفائدة نتكلم عن كل عمل من الأعمال المذكورة، على قدر ما يتسع المجال:
أولاً – البر
البر الذي يطلب الكتاب المقدس أن يتوافر لدينا نوعان: الأول هو البر الشرعي أو الاكتسابي، وهو البر الذي نناله من الله "بالتوبة الصادقة عن الخطيئة، والإيمان الحقيقي بالمسيح"، وذلك بناء على كفاية كفارته له المجد لإيفاء مطالب عدالة الله عوضاً عنا[1]. وهذا البر هو الذي يمنحنا امتياز القبول أمامه تعالى إلى الأبد. وقد أشار الرسول إليه في قوله "متبررين[2] مجاناً بنعمته بالفداء الذي بيسوع المسيح" (رومية 3: 25- 28). وقوله "وأما الآن فقد ظهر بر الله[3] بالإيمان بيسوع المسيح، إلى كل وعلى كل الذين يؤمنون[4]" (رومية 3: 21-22). وقوله: "وأما الذي لا يعمل[5]، ولكن يؤمن بالذي يبرر الفاجر، فإيمانه يحسب له براً" (رومية 4: 5).
والثاني هو البر الشخصي أو العملي. وهو الأعمال الصالحة التي يجب أن نقوم بها، بعمل الروح القدس في نفوسنا، لأجل مجد الهنا الذي أحبنا[6] (متى 15: 26). وهذا البر وإن كان لا شأن له في تهيئتنا للقبول الأبدي أمام الله، لأننا مهما أكثرنا منه نكون عبيداً بطالين (لوقا 17: 10)، غير أنه تعالى يكافئنا عنه بالمكافأة المناسبة، أما في الزمن الحاضر أو في الأبدية، أو في كليهما معاً (1 كو 3: 14). وقد أشار الرسول إلى البر المذكور فقال: "لأن ثمر الروح هو في كل صلاح وبر وحق" (أفسس 5: 9). وقال عن أبطال الإيمان أنهم "صنعوا براً" (عبرانيين 11: 23). وقال لنا: "قدموا ذواتكم لله كأحياء من الأموات وأعضاءكم آلات بر لله" (رومية 6: 13).[/size][/color]