موضوع: ساعة التجربة وسبيل النجاة منها الجزء الخامس الأربعاء أبريل 15, 2009 9:12 pm
[1] عبارتان مجازيتان يراد بهما وضع أقوال الله نصب أعيننا في كل حين. [2] أو بالحري: لا تدعو نفوسكم تتشكل بشهواتكم السابقة. [3] وذلك بالتأديب المرير. [4] الخطية لا تكمن في العين، سواء أكانت اليمنى أو اليسرى. كما أنها لا تكمن في أي عضو من الأعضاء الأخرى، بل تكمن في الطبيعة البشرية ذاتها. ولذلك فقلع العين اليمنى يراد به اقتلاع أية نظرة شهوية من النفس مهما كانت عزيزة وغالية، ذلك لأن العادة جرت على الاعتزاز باليمين أكثر من اليسار. [5] الأعضاء هنا لا يراد بها (كما يتضح من النص)، أعضاء الجسد المادية، بل الأهواء والشهوات، وذلك بوصفها من مقومات الطبيعة البشرية ومن ثم لا يراد بالآية المذكورة أعلاه قطع يد أو رجل بالسيف مثلاً، بل انتزاع كل ميل في نفوسنا، نسعى لتحقيقه بأيدينا أو أرجلنا. [6] يوصف الطمع بهذا الوصف، لأنه الدليل على الركض وراء المال دون الله. [7] يراد بـ "ابن الله"، "المعلن لله" أو "الله معلنا" لأنه لا يعلن الله إلا الله، وقد تحدثنا عن هذا الموضوع، بالتفصيل في كتاب "الله ثالوث وحدانيته ووحدانية ثالوثه". [8] إن المسيح بتقديم نفسه للصليب نيابة عنا، اعتبرت دينونة الخطية التي حلت به فعلاً هناك، أنها حلت شرعاً بالمؤمنين الحقيقيين في كل زمان ومكان. لذلك ترد الأفعال الخاصة بهذه الحقيقة في صيغة الماضي. ونظراً لأن هؤلاء المؤمنين حسبوا شرعاً أنهم ماتوا (أو وقعت عليهم دينونة الخطية) يجب أن يميتوا فعلاً كل أهواء الجسد، لكي يكون تصرفهم الخارجي مطابقاً لمركزهم أمام الله.
[9] يوصف الجسد بالمائت لأنه في حكم الموت. [10] الإنسان الخفي هو الإنسان الباطن أو بالحري هو "النفس بكل ما تحويه من مشاعر وعواطف". [11] المراد بالشطر الأخير من هذه الآية أن الزينة المطلوبة هي الروح الوديع الهادئ، الذي لا فساد فيه ولا دنس على الإطلاق.
[12] الدليل على أنه لم يكن ملاكاً عادياً أنه يدعى "الرب" أو بالحري "المسيح" قبل ظهوره في العالم. إقرأ مثلاً (تكوين 16: 13)، (قضاة 13: 16- 22). هذا مع العلم بأن كلمة "ملاك" لا تدل على طبيعة كائن ما، بل تدل على عمله. لأن معناها في كل اللغات "رسول"، والمسيح هو رسول اعترافنا (عبرانيين 3: 1)، أي "الرسول الذي نعترف به" إذ أن الله أرسله لكي يفتدينا من كل إثم، هذا العمل الذي لا يستطيع القيام به سوى المسيح (غلاطية 4: 4).
-5الهرب من الخطية ونتائجه
ولننظر الآن إلى يوسف الذي انتصر على تجربة تعتبر في الواقع أحرج التجارب وأقساها، ونتساءل: ترى ما الذي كون شخصيته النبيلة المتعقلة؟ ترى ما الذي جعله شريفاً رزيناً وفياً، في موقف يسلب الطهر والشرف، ويقضي على الأمانة والرزانة، ويقوض دعائم الإخلاص والوفاء، وقد كان إنساناً مثلنا له غرائزنا وميولنا. الجواب: إن ما جعله يتصف بهذه الصفات هو اتصاله الحقيقي بالله. والدليل على ذلك أنه قال: "كيف أفعل هذا الشر العظيم وأخطئ إلى الله؟". فالله الذي كان بعيداً كل البعد عن ذهن امرأة فوطيفار، كان هو الكل في الكل بالنسبة إلى يوسف، إذ كان يعيش بالروح في حضرته، ويحس في كل حين بهيبته التي تطغى على هيبة. لكن كيف استطاع يوسف أن يكون متصلاً بالله اتصالاً وثيقاً في هذا الموقف، الذي يسلب الإنسان صوابه ويدفعه إلى ارتكاب الخطيئة دون وعي منه؟ الجواب: لأنه كان قد ألف العيش مع الله والطاعة له في كل الظروف والأحوال. فقد كان يعيش معه ويطيعه عندما كان ابناً مدللاً في بيت أبيه، كما كان يعيش معه ويطيعه عندما كان عبداً في بيت وثنى من الوثنيين. ومن يألف العيش مع الله ويطيعه في كل الظروف والأحوال، يستطيع أن يكون متصلاً به ومطيعاً له في أقسى التجارب. لأن إخضاع القلب لله والشركة العميقة معه، قبل مواجهة التجربة، يجعل الانتصار عليها سهلاً ميسوراً. فيوسف، لأنه كان يعيش في حضرة الله، وجد السعادة، وكل السعادة، في التوافق معه. ولذلك رفض إتيان الخطيئة التي يتهافت عليها الكثيرون، ليس فقط لأنها وصمة عار في جبين فاعلها، وليس فقط لأنها إساءة إلى شرف امرأة طائشة، وليس فقط لأنها خيانة لرجلها الغائب عنها، وليس فقط خوفاً من عقابها أو عواقبها، كما يفعل معظم الذين يمتنعون عن الخطيئة. بل لسبب أسمى من هذه الأسباب، ألا وهو لأنها تتعارض كل التعارض مع قداسة الله. فيوسف لم يكن يعمل حساباً لنفسه أو لغيره بقدر ما كان يعمل حساباً لله، لأنه تعالى بالنسبة إلى يوسف (كما بالنسبة إلى غيره من المؤمنين الحقيقيين) هو أعظم من كل عظيم، وأغلى من كل غالٍ، وأعز من كل عزيز، وأحب إلى القلب من كل حبيب – وهذا هو الأساس الحقيقي الراسخ لحياة القداسة والطهارة. أما لو كان يوسف يحيا بعيداً عن الله، لاستعذب صوت الخطيئة، ولكانت هذه قد استهوته واستحوذت على قلبه. ولكانت أيضاً قد أعمت بصيرته، فوجد المبررات والأعذار التي تجيز له فعلها في هذه الآونة. فقد كان عنفوان الشباب، ولم يكن هو الذي يسعى وراء هذه المرأة، بل هي التي كانت تسعى إليه. فضلاً عن ذلك كان عبداً لديها يجب عليه تلبية ندائها لكي ينال عطفها ورضاها، ويتجنب ما يمكن أن تقابله به من إهانة واضطهاد.
فلنستغفر نحن أيضاً أيها الأعزاء في حضرة الله. لنعرفه في كل طرقنا، وهو يقوم سبلنا (أمثال 3: 6). لنسكن معه في كل حين، نجده أيضاً معنا في كل حين، لاسيما في التجربة التي نكون فيها أحوج ما نكون إليه. وبذلك لا يمكن أن تسيطر علينا الأهواء أو تخدعنا، لأننا إذا كنا في حالة الشركة مع الرب، وهاجمتنا الخطيئة من الباطن، أو من الخارج، نستطيع أن نقولها: "لا".
وإذا وعدتنا باللذة والنعيم إن عملناها، نستطيع أن نقول لها "لا". وإذا توعدنا بالإسي والاكتئاب إن ابتعدنا عنها، نستطيع أن نقول لها: "لا". و"لا" بكل معاني كلمة "لا"، لأنها لا تكون وقتئذ "لا" الراغبين في الشهوة المتمانعين عنها، بل "لا" القديسين الذين يبغضونها ويترفعون عن مجرد التفكير فيها، إذ أنهم يدركون الشر المخيف الذي ينجم من جرائها.
أما الذين يرفضون إتيان الخطيئة أحياناً، بينما يميلون إليها في الباطن، فإنهم إذا قالوا لها وقتاً ما "لا" تشبهاً بالقديسين، فمن المحتمل جداً أن يأتوها قبل أن تغادر ألسنتهم كلمة "لا" هذه. ويرجع السبب في ذلك إلى أن الرغبة الصادقة في البقاء في حضرة الله والتمتع به، هي وحدها التي تقدس القلب وتحفظه من السقوط في الخطيئة.
إني أعرف كثيرين سمت حياتهم الروحية سمواً عظيماً بفضل وجودهم المستمر في حضرة الله. ولذلك فإنهم لا يعانون متاعب الجهاد ضد الأهواء، أو مذلة الانكسار أمامها. بل يشقون طريقهم في هذا العالم الشرير، وهم خالو الذهن منها، ولا شك أن كل واحد من القراء سيكون مثلهم، إذا هرب من الأهواء وعاش في حضرة الله بإخلاص كما يعيشون، لأن فضل القوة لله وليس منا (2 كورنثوس 4: 7).
أخيراً إن الأسلوب الرائع الذي استعمله يوسف الصديق للتعبير عن استنكاره لعمل الخطيئة، والوارد في قوله: "كيف أفعل هذا الشر العظيم؟!" ليسترعى انتباهنا ويأخذ بمجامع قلوبنا، فهو يدل على: لكن وجود يوسف في حضرة العليّ، هو الذي حفظ ضميره في حالة الصحو، وعقله في حالة اليقظة، وقلبه في حالة الطهر، ونفسه في حالة الورع. ففضل أن يهان من هذه المرأة على أن يسيء إلى الله. وأن يقتل بيدها الأثيمة على أن يقتل أدبياً وينفصل عن الله. فضلاً عن ذلك لم يكن يضيره أن تحكم عليه بالقتل، فقد سبق وقتل أهواءه، وقتل الأهواء أقسى من قتل الجسد بما لا يقاس. ومن ثم أعرض عن المرأة المذكورة وانتهرها بكل شهامة جرأة. وحقاً "فخر الشباب قوتهم" (أمثال 10: 19)، وقوتهم الأدبية قبل كل شيء آخر. كما أنه عندما تجرأت هذه المرأة ومدت إليه يدها الأثيمة لترغمه على تلبية ندائها، عزف عنها ووجد في الله الذي كان يعيش معه قوة أطلقت ساقيه للريح، فركض بكل سرعة من محضرها الدنس، لكي يظل في جو القداسة الذي تهنأ فيه نفسه وتستريح. ولما ركضت وراءه بعد ذلك وأمسكت بثوبه لتمنعه من الهرب، نزع نفسه منه وتركه لها، غير عابئ بما تدعيه عليه فيما بعد، إذ كان يكفيه أن يكون طاهراً في نظر الله. فضرب بذلك للشباب في كل الأجيال أعظم مثال للعفة والطهارة – ولا شك أن الله قد تطلع في هذه اللحظة إلى يوسف وابتهج بما فعله كل الابتهاج. ومن ثم كافأه في الوقت المناسب بأجلّ مكافأة، إذ جعله حاكماً في أرض مصر، ولا يكون حاكماً بين البشر بالمعنى الصحيح، إلا من حكم أولاً على أهواءه ونزواته (تكوين 41: 42-44). (أولاً) وجود يوسف في حالة الإدراك الحقيقي لمركزه كأحد قديسي العليّ: فهؤلاء يترفعون عن عمل الخطيئة، لأنها لا تتناسب مع مركزهم السماوي. فلسان حالهم دائماً أبداً: "نحن الذين متنا عن الخطيئة، كيف نعيش بعد فيها؟!" (رومية 6: 2). و"نحن مدينون ليس للجسد، لنعيش حسب الجسد" (رومية 8: 12). و"لأننا إن عشنا، فللرب نعيش. وإن متنا فللرب نموت. فإن عشنا وإن متنا فللرب نحن" (رومية 14: . (ثانياً) عد تفكيره في النجاسة من قبل: لو كان يوسف يفكر في النجاسة أو يشتهيها من قبل لكان قد ضعف أمام امرأة فوطيفار واستجاب لرغبتها الإثمية. ولكن ما أبداه من شمم وأباه من جهة فعل الفحشاء، دليل قاطع على أنه كان يعيش في كل حين في جو القداسة – وهكذا يكون الحال معنا، إذا عشنا في هذا الجو مثله.